التكنولوجيا الرقمية
أدى التطور المتسارع الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية التي ظهرت وانتشرت وأصبحت ملمحاً من ملامح العصر بحضورها الطاغي وإسهامها الواضح في تطور الكثير من مجالات الحياة وأبواب العلم وحاجات البشر .. أدى ذلك إلى ظهور مصطلحات لم نكن نعرفها من قبل واستخدامات لم تكن موجودة بل إنها أوجدت واقعاً غير الواقع الحقيقي الذي نعيشه اليوم فلدينا ما يسمى بالواقع الافتراضي.
وهناك العديد من التعريفات لمصطلح الواقع الافتراضي نختار منها : أنه عالم بديل يتشكل في ذاكرة الحاسبات يخلق حالة من التواجد المكتمل ويعطي أفقا آخر لتطور البشرية ويعمل على نقل الوعي الإنساني إلى بيئة افتراضية يتم تشكيلها إلكترونياً من خلال تحرر العقل للغوص في تنفيذ الخيال بعيداً عن مكان الجسد.
وتزامناً مع ذلك التطور وما رافقه من الظواهر الاجتماعية والتربوية التي بدأت تلوح في الأفق بين شبابنا وأطفالنا في بداية هذا القرن ثارت تساؤلات عديدة لدى التربويين والمهتمين بالشأن الاجتماعي:
هل سيأتي اليوم الذي نترك فيه عالمنا الذي نعيش فيه ونهرب إلى عالم افتراضي من صنع الإنترنت ، حيث سيصبح لكل إنسان قرين له يبيع ويشتري ويمشي في الأسواق ويلتقي بأشخاص ويناقش ويحاور الجميع؟
وهذا لم يعد من ضروب الخيال ولكنه موجود عبر مواقع الإنترنت والتي تقدم حياة افتراضية أو حياة ثانية كما تسمى على الإنترنت يعيش فيها ملايين البشر..!!
إن الإنترنت هو ثورة بكل المقاييس، فقد فرض نفسه على العالم في كافة أوجه الحياة وأصبح استعماله لا مناص منه وصارت الاستفادة منه ضرورة حتمية في كافة الميادين.
الكشفية..
طرحت الكشفية نفسها بقوة كنشاط تربوي مبني على أساس من التعلم بالممارسة في الواقع وتقديم التربية التي تعتمد على التفاعل المباشر والتجربة والتعايش الاجتماعي الحقيقي الذي يؤدي إلى اكتساب المعرفة والمهارة وتنميتها عمليا بما يؤدي إلى تنمية الاتجاهات الوجدانية والسلوكية في إطارها الصحيح لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة في ثروة الوطن من الفتية والشباب. وهي بذلك (أعني الكشفية) تقدم نفسها كبديل تربوي ناجع ومتوازن للشباب بما تحتويه أيضاً من إطار رمزي واضح المعالم يشبع فيهم الرغبة نحو التخيل والإبداع وتحقيق ما يتخيلونه على أرض الواقع وممارسة إبداعاتهم في العالم الحقيقي.
الكشفية والإنترنت: إيجابيات كثيرة .. وبعض السلبيات نحذر منها
مع ما سبق ذكره من انتشار التكنولوجيا الرقمية وما تحققه من فوائد كان من الطبيعي أن يسعى المسؤولون عن الكشفية إلى الاستفادة منها في مجالات التواصل والإعلام والتدريب وغيرها.
وانطلقت الجهود الموجهة وغير الموجهة وانتشرت المواقع الكشفية والمنتديات على الانترنت مدفوعة برغبة في الإعلام عن الحركة ونشرها والعديد من الدوافع الأخرى حتى أصبحت المواقع والمنتديات بالآلاف (أتحدث عن المنطقة العربية)، وقد تميزت العديد من المواقع في هذا الشأن وتعاملت باحترافية ومهنية ومسؤولية مع الإنترنت وصارت انعكاسا للتجارب العملية وإبرازاً لدور الحركة ورسالتها.
ولكن … هناك العديد من المشاهدات التي نريد أن نحذر منها والتي تصبغ بطابعها السلبي ما يمكن أن نطلق عليه الكشفية الافتراضية.
إن سهولة إطلاق المنتديات والمواقع وعدم وجود معايير أساسية لمن يريد أن ينشئ موقعا أو منتدى أو صفحة على أحد المواقع باسم الكشفية، أقول أن هذه السهولة قد أسهمت في بدء ما يمكن أن يصبح ظاهرة (هذا إن لم يكن قد أصبح بالفعل كذلك) الانتشار غير الرشيد لكشفية افتراضية تتسم بالكم وليس الكيف.
فقد يكون من بين هذه المواقع الافتراضية ما يملكه ويديره كشاف أو جوال حديث عهد أو شخص لا علاقة له بالكشفية وليكتب ما يشاء وقتما يشاء ولن يعدم جمهورا طالما أن التواجد افتراضي والمشاركة بضغطة على فأرة الحاسوب ، مما فتح الباب واسعا أمام التكرار والتساهل والفوضى والتشابه والتطابق والنقل وعدم حماية الحقوق الفكرية وغير ذلك من أمور نلاحظها ونراها بأم أعيننا كل يوم.
وقد تعدى الأمر إلى درجة تكون فرق وجماعات كشفية (بمسميات مختلفة) لا وجود لها على أرض الواقع، فقط على الشبكة العنكبوتية حيث يستطيع الفتى أن يكون كشافاً في فرقة وهمية، والقائد كذلك.
وفي أغلب الظن أن تلك الأعراض هي نتيجة طبيعية لما تعانيه الكشفية من ضعف في مجالات تطبيق برامج الفتية وقصور في التدريب القيادي وغير ذلك من أوجه الخلل والأسباب مما أدى إلى استسهال البعض واللجوء للعضوية التخيلية كبديل عن بذل الجهد في تكوين فرقة بمقومات تربوية وإدارية سليمة وما يترتب عليها من مسؤوليات تحتاج إلى قادة حقيقيين مدربين وما يستلزم ذلك من تخطيط وتنفيذ وتقييم وتفاعل وتواصل في العالم الواقعي وتحقيق النجاح المبني على قدرة واستحقاق.
ولا يمكن أن نغفل محاولة البعض تحقيق الشهرة بأيسر الطرق دونما استحقاق مبني على الممارسة الميدانية بل بالاعتماد على الإنترنت كوسيلة إعلامية.
كما أن ما تنقله الكثير من المنتديات والمواقع من موضوعات فنية إما أنها لا تخضع للتدقيق الفني أو تكون منقولة بالنسخ دون الإشارة للمصدر بل ومزيلة بأسماء أخرى على خلاف الحقيقة ، وقد تجد العديد من الموضوعات المبنية على النظريات المنقولة من علوم أخرى وغير صالحة للتطبيق العملي في الكشفية أو غير مجربة. ناهيك عن موضوعات النقاش السطحية التي لا تجدي الحركة نفعا.
ومما نلاحظه أيضا تخطى بعض المواقع والمنتديات للدور الإعلامي المتمثل في نقل صورة عن برنامج نشاط معين إلى الدور التقييمي الذي يؤكد على نجاح أو عدم نجاح هذا النشاط، الأمر الذي يتم بدون موضوعية في أغلب الأحيان، فالمواقع الكشفية على هذا النحو تقدم أحيانا صورة غير حقيقية تسهم في تغطية العيوب وإخفائها عن قادة الحركة لذا لا ينبغي الاعتماد عليها بأي حال كأداة موضوعية في التقييم المستمر لواقع الحركة.
تساؤلات بين كشفية الواقع .. وكشفية الخيال
هل سيأتي اليوم الذي تنتقل فيه الكشفية من أرض الواقع إلى العالم الافتراضي التخيلي؟ بحيث تكون الكشفية مجرد عالم من الخيال موجود على شبكة الانترنت بمواقعها المختلفة ؟
هل سيصبح النجاح في العالم الكشفي الافتراضي هو المهرب والبديل لمن يفشل في العالم الكشفي الحقيقي؟
هل سيكون تنامي هذا العالم الكشفي الافتراضي بسماته الحالية الغير منضبطة في مصلحة الحركة وقادتها المخلصين الحقيقيين أم سيفيد منه قلة ممن لهم القدرة على الولوج فيه أكثر بكثير من قدراتهم الكشفية وعطائهم الكشفي في الميدان؟؟
وما هي انعكاسات وآثار هذا التنامي على الكشفية ونموها في الاتجاه الصحيح نحو تحقيق هدفها التربوي في تنمية جوانب الشخصية الروحية والجسدية والعقلية والاجتماعية للشباب كأعضاء في مجتمعاتهم المحلية والوطنية والعالمية؟
العديد من التساؤلات الأخرى التي تتبادر إلى الأذهان حول السلبيات (مع اعترافنا بالإيجابيات) ..
ثم : ما هي الحلول والأساليب العملية التي نضمن بها تقليل السلبيات الناجمة عن تلك الظاهرة والحد منها؟
التربية الكشفية أيها الأخوة ..
– تعتمد على التفاعل الاجتماعي المباشر من خلال نظام الجماعات الصغيرة الذي ينمي السمات الاجتماعية ويجعل الفرد قادرا على التفاعل مع محيطه ومجتمعه في العالم الواقعي ويكسبه القدرة على العمل الجماعي والكثير من المهارات القيادية. فهل هذا يحدث في مجتمع النت الافتراضي؟
– تؤكد على تنمية السمات الشخصية وإكساب الصفات والسلوكيات الصحيحة من خلال التعود عليها بإرشاد مباشر من القادة في المخيمات والاجتماعات والأنشطة المتنوعة. فهل يمكن تحقيق ذلك في الكشفية الافتراضية خلف شاشات الكمبيوتر في القاعات والغرف المغلقة أو حتى المفتوحة؟
– وغيرها من الأمثلة التي لا أريد الاسترسال فيها لأني أعلم أنها بديهية ولا تحتاج للاستطراد أكثر من ذلك.
أكتفي في مقالي بهذا القدر الذي أرجو أن يكون بمثابة الإنذار المبكر لننتبه إلى ضرورة الاهتمام بجوهر الحركة وتقييم ما يحدث على ساحة الكشفية الافتراضية من منظور أهداف الحركة وكيف تكون الاستفادة الصحيحة من ثورة المعلومات والتكنولوجيا الرقمية كوسيلة هامة نستخدمها كوسيلة وليست غاية، وهي بلا شك رائعة ومفيدة إذا ما تم توجيهها بصورة رشيدة.
وأختتم بأن سلبيات ظاهرة الكشفية الافتراضية لا تخلو من إيجابيات تتمثل في أنها (في رأيي) خير دليل على أن البرامج الكشفية والتأهيل القيادي في حاجة إلى إعادة نظر، وهي دعوة للتفكير والدراسة