منذ أمد طويل، ومادة الموضوع لعنوان هذه المقالة، يؤرقني كثيرًا. كنت أبحث عن عنوان مناسب لموضوع كبير وشائك، ذلك هو مفهوم الأخلاق، الذي ظل طوال قرون أسير النقل والاقتباس ، من الفلسفات القديمة والمعاصرة، وأحيانًا يتحدد بالتاريخ أو الدين أو النظم المعرفية السائدة في هذه الحقبة من الزمن أو تلك، ولكن دون روح نقدية أو منهج نقدي واضح، يحلل ويسبر ويستدل ويستنبط
في بداية السبعينات من القرن العشرين، وجهني والدي وأنا في حداثة سني لقراءة كتاب «الأخلاق» لأحمد أمين. وتحمست لقراءة الكتاب بطبعاته الثلاث للأعوام 1920م، 1923م، 1925م، وما زال الكتاب بحوزتي حتى الآن، كلما أقرؤه أكتشف فيه شيئًا جديدًا. واطلعت كذلك في حينها، إذ شغفت بموضوع «الأخلاق» وشدني كثيرًا إلى كتاب «الأخلاق» عند الغزالي للمرحوم الدكتور زكي مبارك الذي كان أستاذًا لوالدي في دار المعلمين العالية في بغداد في عقد الثلاثينيات. وعبر السنين حاولت أن أعزز قراءاتي عن مفهوم الأخلاق، لفظًا ومعنى، فتعرفت على آراء كبار فلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو وجالينوس ومينثاغورس، وكتابات فلاسفة العرب المسلمين، مثل الفارابي وابن سينا والكندي وابن باجه وابن طفيل والرازي وابن الهيثم، ثم الماوردي ومسكويه. ولم أنس طبعًا المحاسبي وابن عربي وغيرهم الكثير من المحدثين والمعاصرين في الغرب والوطن العربي. وفي العقد الأخير من القرن العشرين، وقع بين يدي كتاب الأخلاق الإسلامية وأسسها، لمؤلفه السيد عبد الرحمن حبنكه وهو محاولة جادة بالاقتصار على القرآن والسنة النبوية الشريفة في عرض ذات الموضوعات المتوارثة عن الأخلاق التي وردت في الفكر اليوناني والفكر الإسلامي على حد سواء.وبعد كل هذا وذاك، أين نحن اليوم من موضوع الأخلاق ونظام القيم؟ هل نحن فعلاً نعيش (أزمة أخلاق) كما يعبر عنها بعض الكتاب ويتلمسها الكثير من المثقفين والباحثين في أرجاء العالم، أم نحن نعيش (أخلاق أزمة)، كما يحلو للبعض أن يسميها، باعتبار أن الأزمات في حياة الشعوب والأمم، تفرز أنماطًا جديدة من الخلق، لا تعد ثوابت لا يمكن تغييرها وفق أفضل المعايير النفسية والاجتماعية، وإنما هي أنماط سلبية قابلة للزوال بزوال الأزمة؟إن المراقب للأحداث في عالم اليوم، إذا ما أطلق العنان لفكرهِ التأملي ونظرته النقدية المتفحصة دون تحيز أو مزايدة وبعقلية منهجية متجردة نسبيًا، يجد أن يومنا لا يختلف كثيرًا عن أيام جالينوس عندما كان يشكو من ضياع الفضيلة والخلق في زمانه، ولا يختلف أيضًا عن أيام ابن رشد عندما كان يئن من فقدان الأمل في تأسيس نظام للقيم الأخلاقية في زمانه قبل نكبته وحتى في أثنائها وما بعدها. إذًا لا بد لنا أن نضع حدودًا لهذه الإشكالية. أين هو الخلل؟ هل هو في نظام القيم الذاتية؟ أم هو في مقدار فهمنا واستيعابنا لمعنى الأخلاق وقيمها ونظامها؟ وهل أن نظام القيم الأخلاقية الذي يصلح لمجتمع ما، يمكن أن يعد صالحًا لمجتمع آخر حتى إن كان منظروه من كبار الفلاسفة أو علماء الكلام؟.. والجانب المهم الآخر في تشريح هذه الإشكالية، هو التساؤل مع الذات، عن الإصرار من قبل بعض المنظرين في جعل موضوع الأخلاق والفضيلة ونظم القيم ضمن إطار الفلسفة حصرًا أو الدين حصرًا، دون محاولة الخوض في هذه المفاهيم بحرية وصراحة ونقدية وانسيابية أكثر ضمن إطارات علم النفس أو علم الاجتماع أو حتى علم السياسة !!.المحزن المبكي، هو أننا حقيقة نعيش أزمة أخلاق عالمية على كل المستويات مع ارتفاع مستوى التنظير باستخدام الألفاظ واللغة، واعتماد منهج الحذلقة الكلامية والخطاب المحبوك لغويًا، والسفر على سطح الأزمة وحافاتها والدوران حولها دون الولوج في أعماقها والنبش في مضامينها. لقد اختلطت الأوراق وأصبح الباطل حقًا، والرذيلة فضيلة، والخطأ صوابًا والانفلات حرية والاعتدائية شجاعة، والتسلط مفخرة، والسيطرة حماية والتفكير تواضعًا وحق تقرير المصير إرهابًا، والاستقلالية تمردًا… إلخ. والعجيب المثير للدهشة، أن هذه الأزواج من المتناقضات تأتي من القوى الكبرى في المصالح العامة والمنافع الإنسانية الشاملة للشعوب والأمم، هو السائد في عالم اليوم، وصارت الفردانية والشخصانية هما السلاح الذي نحارب به بعيدًا عن الجماعية والشراكة.والمحزن المبكي أيضًا.. بل والمؤسف حقًا.. أن اضطراب القيم وتداعي الأخلاقيات صار جزءًا من السلوك اليومي للكثير من الأفراد حتى وإن ارتفع شأنهم ثقافة أو تعليمًا حيث الجشع والحسد والأنانية والبغضاء والكراهية، مع التشدق الدائم والمستمر بالطقوس والشعائر الدينية والتحدث عن النبل والخلق القويم. لقد أصبحت الهوة كبيرة بين ما نقول وما نفعل، لا بل حتى بين ما نفعل وما ننوي أن نفعل!! لقد غاب الحب لفظًا ومعنى.. وتاهت المحبة بين الأفراد والشعوب والأمم، مظهرًا وجوهرًا، وتصدعت الأمانة والإخلاص والمصداقية، وتزعزع الإيمان في قلوب الناس ونفوسهم، وشنقت الفضيلة في محراب الرذيلة، وأعدمت الأخلاق دون تهمة أو محاكمة علنية، وانتزعت الروح وشفافيتها من الجسد الفاني، لتبقى المادة وحدها تبحث عن مستقر لها في عالم يتصارع فيه الجشع والشهوة واللذة والحسد والأنانية . إنه صراع بين التملك والكينونة، أن نكون أو لا نكون، أن نموت أو أن نحيا.أتمنى أن لا أُفْهَمَ على أني متشائمة إلى حد النفور، ولا أني أكرر دعوات مثالية سابقة، أو أدعو إلى التحرك من محطات المثالية باتجاه الواقعية، ليس هذا أبدًا! بل إني متفائل ولكن ليس إلى حد التخمة، متفائل بقدراتنا وطاقاتنا الروحية الكامنة التي ما زلنا عاجزين عن توظيفها وتطويعها.إنها دعوة إلى النقد الذاتي، لكل شيء فينا، لحاضرنا الفكري والأخلاقي وحتى لماضينا وتراثنا، وللموروثات الثقافية في عقولنا. لا نرفضها بتطرف وراديكالية ، ولا نقبلها بطواعية وطوعية، على أنها مسلمات تترسخ في العقل لا يمكن هزها أو زعزعتها، بل ننقدها، غثها وسمينها، نستنبط منها ما نستطيع أن نوظفه حقًا لصالح عقولنا وأمتنا، أمتنا العربية الإسلامية التي كتب عليها، ليس بمفهوم القدرية المطلقة، بل بفعل كينونتها وشفافيتها أن تذوق طعم الحب للخالق لتحظى بحبه ورضاه بعد حين، لا ليرضى عنها فقط، بل لترضى هي عن نفسها، وقد بث فيها الخالق تبارك وتعالى كل المسببات والعناصر من أجل حياة الفضيلة والإرادة والكرامة والمحبة والسلام.ولا بد من القول دون تبجح أو مفاخرة.. إن تراثنا العربي الإسلامي يتضمن الكثير من الرسائل والكتب الثمينة التي تناولت موضوع الأخلاق وعالم الخلق، بوصفه موضوعًا يخص النفس الإنسانية التي تتراوح بين الفجور والتقوى، كما تناولت التهذيب للأخلاق الرديئة بوصفه العلاج والشفاء لأمراض الأخلاق التي هي أمراض النفس واضطراباتها. إن الصراحة تدعوني إلى القول، إن ما يكتب اليوم في معظم لغات العالم عن موضوع الخُلقِ وواقعيته، لا يرتقي إلى ما قيل في هذا الموضوع بإسهاب وصراحة على لسان الكندي والرازي وسنان بن ثابت وابن الهيثم وابن حزمٍ الأندلسي وغيرهم الكثير. إنها دعوةٌ مخلصة وأمينة إلى الشباب من أبناء أمتنا العزيزة.. ولكل التربويين والمثقفين والمفكرين والمحبين للمعرفة، للقراءة والكتابة في موضوع الأخلاق والقيم الأخلاقية.. حتى تتضافر الخبرة وتتكاتف العقول المبدعة لتأسيس نظام جديد وعصري لمنظومات القيم والأخلاق والتهذيب في مجتمعاتنا العربية الإسلامية التي لا تنفصل أبدًا عن حركة التاريخ والحياة وتجارب الشعوب الأخرى في العالم أجمع. إنها الحاجة الماسة في عالم اليوم الذي نعيشهُ حيث اضطراب القيم وغياب التفكير السليم، والانتقال إلى مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية والسلام.. مجتمع المحبة والتعاون والتسامح والتصالح… ولِنتعلمَ جميعًا وقبل أي شيء آخر.. كيف نعتذر لنفوسنا التي نرهقها كثيرًا بشهواتنا وغضبنا… حتى نتعلم الاعتذار للآخر بكل شجاعة وحكمة وعقلانية. إنها ليست مثالية أو كمال.. إنها الواقعية والتوازن. بتصرف