عروض و بحوث

تساؤلات للكشافة في المغرب

تعتبر الكشفية حركة تربوية عريقة لا يشكك أحد في الخدمات الجليلة التي قدمتها للوطن منذ تأسيسها سنة 1933، فهي ذاك الابن الشرعي لحركة المقاومة الوطنية الذي رافق نماء المغرب في جل محطاته التاريخية، والأكيد أنها لازالت تحوي في كنفها كشافة مستعدين للقيام بكل ما من شأنه المساهمة في تقدم هذا الوطن.

لكن يبدو من خلال إلقاء نظرة على الجمعيات الكشفية الموجودة في الساحة التربوية الوطنية (سواء المنضوية منها تحت لواء الجامعة أو غير المنضوية) أن كل جمعية كشفية تنهج نهجها الخاص، و تستند إلى أدبيات مختلفة عن الآخرين، بل يمكن الجزم على أن عدد الجمعيات الكشفية في بلادنا يقارب عدد الفروع الموجودة على الصعيد الوطني إن لم نقل أنه يعادل عدد القادة المؤطرين داخل الوحدات على اعتبار أننا نعاني من الفردانية في فهم و تفسير العمل الكشفي. لقد أصبحنا نلاحظ أن لكل كشفيته و لكل نظرته الخاصة للطريقة الكشفية و لكل ترجمته المتفردة لقانون الكشاف رغم أننا ندعي انتماءنا لنفس الحركة العالمية و ننتمي لبلد واحد لعله من البلدان القلائل التي تنعم بمقومات الوحدة الكشفية دون أن نتمكن من تفعيلها على أرض الواقع.

البعض يقول إنها مسألة وقت فقط و أن الوحدة الكشفية المغربية قادمة لا محالة، و البعض الآخر يعزو الوضع الراهن لصراع المناصب بين القيادات، هناك من يبادر للوحدة من خلال تنظيم بعض الأنشطة المشتركة التي في الغالب ما تقود لتكريس الاختلافات بل في بعض الاحيان قد تؤدي إلى خلق تنافرات تحول دون تحقيق الهدف المنشود من خلالها، وهناك من يحبذ أن يبقى الوضع على ماهو عليه معتبرين أن هذا الاختلاف صحي و أنه لايفسد للود قضية… فلماذا هذا التشرذم إذن ؟ لماذا لا نتوحد تحث نفس اللواء ؟ لماذا لا نحاول تقريب مفاهيمنا التربوية و الكشفية ؟ لماذا لا نقوم بإعادة صياغة أدبياتنا و تبسيطها و نشرها على نطاق واسع حتى يتسنى لنا الاندماج السلس بين مختلف مكوناتنا ؟ لماذا لا نقوم بتثمين الطاقات التي تتوفر عليها كل جمعية كشفية ليستفيد منها الجميع ؟ إن الغاية من الوحدة ليست توحيد الزي الكشفي و لا الالتزام بطريقة بعينها لأداء الطقوس و المراسيم الكشفية فقط، بل الغاية من الوحدة هي الالتزام بمنظور كشفي مشترك من خلال التفعيل الدقيق للأهداف الكشفية و تبني نفس الأساليب التربوية و العمل على تفعيل نفس نظام التدرج الكشفي.

للأسف فواقع الممارسة الكشفية في المغرب يدفعنا للقول بأن كل واحد منا منهمك وراء تحقيق أهداف آنية تفتقد في غالبيتها لبعد استراتيجي واضح المعالم و نتناسى أن قوتنا تكمن في توحدنا حول نفس الأدبيات التي أضحت تتعرض للتحريف إن لم نقل التزييف في بعض الأحيان، الأدهى من هذا هو ما أصبحنا نلاحظه داخل فروع الجمعية الواحدة و كيف أن أنشطة بعضها أصبحت تبتعد كل البعد عن جوهر العمل الكشفي. لقد أضحى من حق الجمعيات الأخرى أن تتساءل عن ما مدى اختلافنا عنها، و من حقها أيضا أن ترحب بنا في كنفها لكوننا أصبحنا نتقاسمها أهدافها و أساليبها التربوية، كما من حقها أن تتساءل هل اللباس الكشفي و نار المخيم هي وحدها ما يميزنا عنها ؟ لقد أصبحنا نعاني من فقدان تلك الروح الكشفية الأصيلة التي كانت تميزننا عن باقي المتدخلين في الحقل التربوي و التي دفعت الكثير من الآباء لاختيارنا كمحطة تربوية مهمة في حياة أبنائهم. واقع الحال هذا ليس حكرا علينا وحدنا في المغرب بل هو ما يتهدد الحركة الكشفية على الصعيد العالمي. هذا الوضع الغير مطمئن دفع المكتب الكشفي الدولي ومنذ مدة للانكباب على هذه الإشكالية من خلال طرح وثيقتين هامتين للمناقشة في المؤتمر الرابع و الثلاثون للكشفية العالمية و الذي أقيم في أوسلو، مع توصية بمواصلة النقاش حولها على صعيد كل جمعية على حده. هاتان الوثيقتان تضمنتا بعض الاقتراحات لمناقشة السؤالين التاليين: الكشفية لماذا ؟ و الكشفية لمن؟

على بساطتهما يحمل هذان التساؤلان في طياتهما بعدا استراتيجيا لا يجدر بنا الاستهانة به إن نحن أردنا المضي قدما نحو فهم جديد و متجدد للكشفية وإن نحن قررنا تكييف الأنشطة الكشفية مع الواقع دون الابتعاد عن كل ما هو أصيل في هذه الحركة التربوية العريقة. فالإجابة عن هذين السؤالين ستقودنا لا محالة لإعادة فهم أدبياتنا و استيعاب أكثر لأهدافنا و غاياتنا الحقيقية وجعلها مبسطة وقريبة من جل المتدخلين في الميدان الكشفي. سنحاول في هذا المقال إذن طرح بعض الأفكار التي وردت في الوثيقتين المذكورتين بتصرف و سنحاول مناقشتها بشكل مطلق دون نية التعرض لخصوصيات هذه الجمعية أو تلك.

أولا : الكشفية لماذا ؟

نود أن نشير في البداية أن طريقة تناول هذا السؤال تعتمد بالأساس على تدارس آراء اللورد بادن باول مؤسس الحركة عندما بدأ التفكير في ما سيسمى في ما بعد بالحركة الكشفية لعلنا نستلهم من تلك اللحظات ما يمكننا من استبصار انشغالاته الأولية.

بالعودة لتاريخ هذا الرجل (الذي كان يعد بطلا قوميا في بلاده) سنلاحظ أن رجوعه من مهامه الحربية شكل له صدمة قوية بالنظر للأوضاع المزرية التي كانت تعيشها الساكنة الإنجليزية عامة و خصوصا منها تلك القاطنة في الأحياء الشعبية اللندنية حيث يتفشى الفقر و الهشاشة و الإقصاء الاجتماعيين دون أن ننسى الاستغلال الطبقي وانتشار الإجرام والتعفن البيئيي… هذه الصدمة قادته لتسجيل مجموعة من الملاحظات الجوهرية و جعلته يخوض حربا من نوع آخر في سبيل أبناء وطنه.

فعلى المستوى الجماعي قام هذا الرجل بجرد لمجموعة من النقاط السلبية التي كانت تنخر المجتمع الإنجليزي كالظلم الاجتماعي و ضعف الحس التضامني و نقص حس المواطنة… أما على المستوى الفردي فقد سجل بحسرة شديدة أن أبناء وطنه يتجهون أكثر نحو الأنانية ويحبون الربح السريع، زد على ذلك تبنيهم لأسلوب النفاق ومعاناة صغار السن منهم من بنية جسمانية مريضة بل متدهورة في أغلب الأحيان، ناهيك عن تفسخ أخلاقي لا مثيل له و انعدام لاحترام الذات و الآخرين…

أود أن أتسائل هنا هل نحن بمنئى عن هذه الأخطار في وطننا ؟ ألسنا نعاني من بعض هذه المشاكل ؟ و هل استطاع العالم الآن بكل ما وصل له من قوة أن يقضي على مثل هذه الآفات التي تهدد المجتمعات ونحن في بداية القرن الواحد و العشرين ؟ بالنسبة لبادن باول هذه العيوب الفردية و الجماعية من شئنها أن تؤدي لا محالة لتقويض أسس المجتمعات وهي كفيلة بالزج بها إلى الهاوية بعيدا عن أي تقدم منشود. لذلك توجه تفكيره نحو استحداث أسلوب تربوي يتسم بالجدة و الحداثة و من شأنه النهوض بالمجتمع بكل مكوناته، فالمنظومة التربوية التقليدية التي كانت سائدة آنذاك أبانت عن عدم قدرتها على تحقيق أهدافها كاملة لسبب بسيط يتمثل في كونها كانت غارقة بدورها في المشاكل وإلا لما وصل المجتمع الإنجليزي لما وصل إليه من تدهور. فالمدرسة كانت منهمكة في تمرير المعارف فقط لا غير، فيما باقي المتدخلين في حقل التربية منهمكون في تكريس نوع من المحافظة الاجتماعية من خلال تمرير ما تم توارثه من الآباء و المربين السابقين بدون نقد أو تفكير في مدى ملائمته للواقع المعاش.

لقد اعتبر بادن باول تلك الطرق التي كانت مستعملة من طرف المتدخلين في حقل التربية لا تعدو كونها نوعا مقنعا من الترويض و هي بذلك بعيدة كل البعد عن التربية الحقيقية التي من شأنها النهوض بالأطفال لما فيه خير أوطانهم. لذلك طالب عند إنشائه للأسلوب الكشفي بالتركيز على التنمية الذاتية من خلال تكوين شخصية الفرد عن طريق العمل على إظهار و تطوير كل ما هو إيجابي و الابتعاد عن كل ما هو سلبي.

يبدو إذن أن بادن باول التجأ لمنهاج يهدف بالأساس لتحسين المجتمع من خلال تحسين الأفراد المنتمية إليه، وذلك باعتماد طريقة مصاحبة و مكملة لهذا الأسلوب تتوخى مساعدة الأفراد على التعبير عن ما يخالجهم بكل حرية من خلال الممارسة الفعلية للأنشطة الكشفية المختلفة و الابتعاد عن أسلوب التقليد الشبيه بالطباعة التي ستستنسخ لنا ماض لن يكون بأي حال من الأحوال إلا صورة مشوهة لنتاج تربوي أبان في كل المجتمعات التي تبنته عن قصره في الدفع نحو التقدم.

يظهر إذن أن هذا الواقع القديم الذي كان وراء ابتداع الحركة الكشفية في إنجلترا لازلنا نعاني من بعض تمظهراته في وقتنا الحاضر و نعيشه بصور أشد في مجموعة من مناطق العالم. لا نجزم بمطابقة مشاكل المجتمعات الحالية لما عايشته إنجلترا في بداية القرن الماضي على اعتبار التحولات والتطور الإيجابي الذي تم تسجيله في مجموعة من المجالات، لكن من بإمكانه القول بأن مجتمعه خال من المشاكل و المعيقات ؟ من منا يمكنه الجزم على أن المهتمين بالتربية يقومون بعملهم علي أكمل وجه؟ من منا يمكنه القول بأنه بمنئى عن مثل هذه الآفات الاجتماعية؟

من المعلوم أننا نحتاج و سنحتاج للتربية كلما جاء مولود جديد للوجود، و الكشفية بأسلوبها الخاص الذي يهدف لتكوين شخصية الأفراد تبقى متفردة وتعد مكملا ضروريا لما تقوم به باقي المؤسسات التربوية. فالتربية الكشفية بتركيزها على تطوير مؤهلات الأفراد تكون قد ركزت على جانب مهمل من طرف المتدخلين الآخرين في التربية و تكون إذ ذاك قد ساهمت في تقدم مجتمعاتها.

لكن في هذه الحركة الواسعة الانتشار على الصعيد العالمي و بعد أزيد من مائة سنة على تأسيسها، الراجح أن هناك اختلاف في الفهم و التفسير حتى في ما يخص المرامي و القوانين و حتى في الطريقة الكشفية. لذلك يتوجب علينا البحث عن متى و كيف تم الابتعاد عن الأفكار الأولية و الأساسية للحركة. للوصول لهذا المبتغى نقترح ملاحظة التغيرات التي طرأت على بعض المكونات الأساسية للحركة الكشفية:

  1. 1.لنأخذ على سبيل المثال الطريقة المقترحة لتطوير و تنمية المجتمع فهي كما سبق الذكر تسعى بالأساس لتكوين مواطنين صالحين، فاعلين في المجتمع متمتعين و فخورين بانتمائهم لأوطانهم. إنها تشكل الهدف الأسمى للحركة كما أسسها بادن باول. لكن على العكس من ذلك يعتقد بعض القادة أنه يجب علينا الاهتمام بتنمية المجتمع دون التركيز على الأفراد معتبرين أنهم قادرون على مسايرة الركب عن طريق التقليد، ويعتقدون أن قيامهم بأنشطة تضامنية مع المجتمع ستخلق لهم أفرادا متضامنين والأدهى من هذا هو محاولتهم تطبيق هذه النظرة في أغلب الأنشطة الإشعاعية داخل جمعياتهم، فهل يمكن اعتبار ذلك عملا كشفيا؟
  2. 2.توجيهات بادن باول التربوية تؤكد على أن الطفل يحمل في جيناته المؤهلات التي تمكنه من الوصول إلى الشخصية الراشدة المستقلة و التضامنية التي يطمح لها، و أن عمل الحركة الكشفية و الراشدين فيها يرتكز على توفير الإمكانات التي ستساهم في جعل الشباب يعتمدون أكثر على طاقاتهم و التي ستيسر عملية النمو الطبيعية لهم في أحسن الظروف، الشيء الذي يتحقق من خلال التوجيه الإيجابي لديناميكية النمو عند الفرد. إذا تمعنا جيدا سنجد أن طريقة التقييم الذاتي و المستمر الموجودة في المنهاج التربوي للحركة هي إحدى سبل إخراج هذه الفكرة للوجود. لكن للأسف هناك من يسعى لكبح كل الطموحات و الميول و المؤهلات الطبيعية للأفراد و تعويضها بما يراه المجتمع و الراشدين أنسب و موافق لنظرتهم الخاصة إن لم نقل الضيقة، وهم بذلك يودون تربية منخرطيهم تبعا لرغبات القادة المسييرين و البالغين من دويهم و مربييهم. فهل عندما ننصاع وراء هذه الفكرة نكون مازلنا نعتبر كشافة فعليين؟
  3. 3.يحثنا بادن باول على توفير بيئة تربوية سليمة موجهة بالأساس لتنمية كل ما هو إيجابي لدى الأفراد والتخلص من كل ما هو سلبي. و يقول أنه بإمكاننا ذلك من خلال إعداد منظومة تدريجية للقيم موجهة لتنمية شخصية الفرد من خلال أنشطة للاكتشاف والتمرس. و على العكس من ذلك هناك بعض المؤطرين الذين يظنون أنه من الواجب التربوي تقديم كل القيم و الاعتقادات للأطفال في أولى مراحلهم السنية و بعد ذلك تركهم يختبرون نجاعتها ومدى ملائمتها للأفكار و التوجهات السائدة داخل المجتمع، وأن دور المربين يتجلى فقط في تقييم مدى تماشي الأطفال مع الوضع داخل المجتمع. فهل بتبنينا لهذه الطريقة في التربية نكون قد أعددنا بيئة كشفية كما أرادها بادن باول؟
  4. 4.بالنسبة لبادن باول إذا كان يتوجب على الحركة الكشفية أن تكون جذابة و مسلية… فإن هدفها هو إيصال الفرد إلى أن يعيش حياة مسؤولة داخل المجتمع و أن يتبوأ مكانة فعالة في تنميتها. لكن بالنسبة للبعض، الكشفية تقتضي تقديم أنشطة تربوية للمنخرطين وسط فضاء يشجع على تكوين الصداقات ويمكن من الاستمتاع بأوقات طيبة مع الآخرين فقط لا غير دون الاهتمام بما حققه الفرد على المستوى الذاتي من تقدم، فهل هذا ما تسعى إليه الحركة الكشفية؟

نلاحظ إذن من خلال النقاط الأربعة السابقة الذكر أنه من الممكن بل من السهل في بعض الأحيان الانزياح عن الأهداف المرسومة للحركة بإتباع فهم خاص للأهداف ولا نناقش هنا هل هذا النوع من الانزلاق الجوهري في فهم الكشفية يتم بوعي أم لا وعي. الشيء الأكيد بالنسبة لنا هو أن الحركة الكشفية وإن أسست عام 1907 في بيئة سوسيثقافية معينة، إلا أنها لا زالت صالحة لمجتمعاتنا الحالية، على اعتبار أن نموذجها التربوي مليء بالأهداف الإيجابية لما فيه خير الأوطان و الأفراد على حد السواء. نحن لا ندعي أن الحركة الكشفية هي الدواء الشافي لكل أمراض العصر داخل المجتمعات، ولكن نعتقد أن بإمكانها المساهمة بفعالية لتطوير مجتمعنا إن نحن تشبثنا بما يميزنا عن الآخرين و تركنا اتباع الأهواء في تفسير غايات الحركة و السعي وراء كل ما هو براق فليس كل ما يلمع ذهب كما يقال. ما نصبو إليه من خلال هذه السطور لا يدعي تقديم الحلول الناجعة لكل التساؤلات التي يمكن طرحها بخصوص أهداف هذه الحركة، ولكن هدفنا هو الدعوة لفتح نقاشات على مستويات أوسع حتى يتسنى لنا الخروج بعناصر مشتركة ستمكننا حتما من رسم توجهات واضحة للكشفية في القرن الحالي. يتبع

مولاي عبد العزيز الصبطي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock